السلاح الصامت للصهاينة في ميدان المعركة

جواد الرومي

في العصر الحديث، استخدمت القوى العالمية الحرب النفسية كسلاح منخفض الكلفة لكنه فعّال. إلا أن الكيان الصهيوني يتمتع بمكانة خاصة بين هذه القوى؛ إذ يرى هذا الكيان منذ تأسيسه أن الرواية لا تقل أهمية عن القوة العسكرية، ولذلك ظل دائمًا في حالة حرب داخل ساحة العقول.

يطلق مصطلح “الحرب النفسية” على أي عمل منظم يهدف إلى التأثير في إدراك الجمهور أو معتقداته أو سلوكه، وذلك من خلال التهديد أو الإشاعات أو المعلومات المضللة أو حتى صناعة روايات موجهة. هذا النوع من الحروب قادر على استهداف المواقف السياسية والأمنية بل وحتى إرادة الشعوب، دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة. وقد استخدمته القوى الكبرى في العصر الحديث كأداة فعّالة وبتكلفة منخفضة. لكن الكيان الصهيوني يتصدر قائمة من يتقن هذا السلاح ، كيان اعتبر الرواية سلاحًا موازياً للدبابة والصاروخ، ووجّه معاركه نحو الوعي الجمعي للشعوب.

يرى بعض الباحثين أن الكيان الصهيوني بدأ استخدامه الرسمي للحرب النفسية منذ السنوات الأولى لتأسيسه في عام 1948، عندما نشر أخبارًا كاذبة عن تقدّم قواته، ما دفع سكان القرى والمدن الفلسطينية إلى الفرار. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الحرب النفسية أداة ملازمة لجميع عملياته العسكرية والأمنية والدبلوماسية. ويستخدم هذا الكيان في هذه المعركة أساليب وتقنيات متعددة تستحق التوقف عندها، نعرض بعضها فيما يلي:

1. صناعة الرواية في خدمة الحرب

أحد أعمدة الحرب النفسية لدى إسرائيل هو اختلاق روايات بديلة. هذا الكيان يدرك جيدًا أن الحقيقة ليست هي الأهم، بل ما يصدّقه الناس هو ما يحدد ميدان المعركة. ففي الهجمات الجوية الأخيرة على منشآت عسكرية في طهران وكرمانشاه وأصفهان وشيراز، سارع الكيان الصهيوني منذ اللحظات الأولى إلى بث موجة إعلامية ضخمة تهدف إلى ترسيخ صورة عملية دقيقة وناجحة وذكية في أذهان الجمهور. لكن وزارة الدفاع الإيرانية أعلنت بعد ساعات أن معظم الطائرات الانتحارية قد تم إسقاطها قبل أن تصل إلى أهدافها. ومع ذلك، تعاونت وسائل إعلام مثل نيويورك تايمز وتايمز أوف إسرائيل مع هذا الكيان في بث أكاذيب مفادها أن جميع الضربات أصابت مراكز عسكرية حساسة. الهدف من هذه الخدعة الإعلامية لم يكن إخبار الناس بالحقيقة، بل زرع شعور بالهزيمة والانكشاف لدى الرأي العام الإيراني.

2. عندما يكون السلاح هو الكذب

في الهجمات الأخيرة، طبّق الكيان الصهيوني نموذجًا كلاسيكيًا من القصف النفسي: بث الإشاعات، نشر مقاطع فيديو مشبوهة، ومحاولة استعراض القوة. وفي شبكات التواصل الاجتماعي، انتشرت عشرات الحسابات المزيفة التي تعود إلى جيش الاحتلال السيبراني، زاعمة أن أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية كانت عاجزة، وأن مواقع عسكرية سرية قد دُمرت بالكامل. إلا أن الصور الرسمية لم تُظهر أي انفجار فعلي داخل الأهداف المزعومة. هذه العملية النفسية لم تكن تهدف لتحقيق إنجاز عسكري حقيقي، بل كانت تسعى إلى إثارة القلق والاضطراب في وعي المواطن الإيراني، على أمل أن يؤدي تآكل المعنويات وضعف الثقة بقدرة الدفاع الوطني إلى تسهيل الضغط السياسي على إيران.

3. إيحاء هشاشة الأمن في كل مكان

في هجوم آخر، لم تكن البنى العسكرية هي الهدف الوحيد، بل رموز المقاومة الوطنية أيضًا. ومن خلال نشر الإشاعات، حاول العدو إعادة إنتاج سردية الخوف. هذا الأسلوب يذكّر بأسلوب قديم استخدمه الكيان في اغتيالات سابقة لعلماء نوويين مثل الشهيد محسن فخري زاده، حيث أراد أن يقول للإيرانيين: “نحن في كل مكان، وأنتم مكشوفون.” وفي حزيران/يونيو 2025 ، نُشرت أخبار غير مؤكدة عن “عملية تخريب ناجحة” في مركز بحثي بمدينة يزد، بهدف التشكيك في أمن المنشآت الحساسة. وقد تم نفي هذا الخبر لاحقًا من قبل مصادر رسمية.

4. قلب الأدوار: من المعتدي إلى الضحية

واحدة من أقدم وأنجع تكتيكات إسرائيل هي تشويه الأدوار. فبعد الهجوم المباشر على إيران، الذي تبعته ردة فعل من الدفاعات الإيرانية، سارعت وسائل الإعلام الغربية – بتوجيه من تل أبيب – إلى تقديم إيران كمعتدية، وطالبتها بضبط النفس! بي بي سي، سي إن إن، ونيويورك تايمز، بدأت تغطياتها برد إيران لا بالعدوان الإسرائيلي. هذا النموذج من الحرب النفسية لا يشوّه صورة إيران فحسب، بل يسعى أيضًا إلى نزع شرعية الدفاع المشروع عنها، وتصوير إسرائيل كـ”ضحية” لهجوم خارجي.

5. الذكاء الاصطناعي، الوسوم، والتلاعب

في الأيام التالية للهجوم، لم تكن وسوم مثل #IranStrikesBack و#IsfahanStrike في تويتر مجرد صُدفة، بل نتيجة تعبئة منسقة لحسابات روبوتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي التابع للجيش السيبراني الصهيوني. الهدف من هذه الوسوم هو خلق انطباع بوجود حرب شاملة، وبث الذعر، وتوسيع حالة عدم الاستقرار النفسي. ويقدّر خبراء الأمن السيبراني أن أكثر من 70٪ من الحسابات التي ساهمت في تصدر هذه الوسوم خلال الساعات الأولى كانت غير بشرية، وهدفها كان تشكيل وعي زائف للرأي العام العالمي حول حجم وقوة الهجمات.

الحرب النفسية: استمرار للسياسة بأدوات إعلامية

ما جرى في الأيام الأخيرة هو إنذار خطير ، المعارك المستقبلية لن تُحسم في الميدان العسكري فقط، بل في ميدان الأكاذيب، الروايات، الوسوم، والإشاعات. لقد أصبح الكيان الصهيوني منذ سنوات أستاذًا في هذه الحرب النفسية؛ من عروض نتنياهو الكاريكاتورية في الأمم المتحدة، إلى التستر على قصف أطفال غزة، ومن تزوير صور الهجمات في أصفهان، إلى تدمير ثقة الإيرانيين بأنفسهم بسلسلة لا تنتهي من الأكاذيب.

مواجهة هذه الحرب النفسية تتطلب إعلامًا ذكيًا، محللين محترفين، والأهم من ذلك رواية مستقلة وموثّقة. الحرب اليوم هي حرب سرديات. ويجب علينا أن نصنع سرديتنا؛ بالحق، بالشجاعة، وبالابتكار والمهارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *